كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال القادرون عند ذلك: إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال، وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك: بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة، الوجود والحياة والقدرة والعقل، فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها، ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان، وكما أن الكواكب المركوزة في السموات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وأضوائها.
فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم، وبتلك النقوش على ناقش.
وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء، فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيرًا فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار، فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة، وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عونًا في كل الأمور انقطعت، وصارت هذه الخلع سببًا لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات.
فهذا هو المراد من قوله: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} ثم قال: {وَيَسّرْ لِي أَمْرِي} وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريدًا له استحال أن يصير فاعلًا له، فهذه الإرادة صفة محدثة ولابد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى، ولزم التسلسل بل لابد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لابد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله: {رَبِّ اشرح لي صَدْرِي} وعبر عن حصول الفاعل بقوله: {وَيَسّرْ لِي أَمْرِي} وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون: يا مبتدئًا بالنعم قبل استحقاقها.
ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته.
ويمكن أن يقال أيضًا: كأن موسى عليه السلام قال: إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال: {وَيَسّرْ لِي أَمْرِي} أو يقال: إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلابد في مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة.
فقال موسى عليه السلام: ما تلك الخدمات؟ فقال: وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعًا أربعة من الخدمة، القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة، ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى: يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري.
الفصل الثاني: في قوله: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلبًا للقرب فنفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء، أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه.
الأول: أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية، أما الأصولية فأولها في البقرة: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189].
وثانيها: في بني إسرائيل {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى} [الإسراء: 85].
وثالثها: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا} [طه: 105].
ورابعها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} [النازعات: 42] وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي.
أحدها: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين} [البقرة: 215] وثانيها: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217].
وثالثها: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219].
ورابعها: {ويسئَلونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219].
وخامسها: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصلاحٌ لهم خير} [البقرة: 220].
وسادسها: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222].
وسابعها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول} [الأنفال: 1].
وثامنها: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83].
وتاسعها: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
وعاشرها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ في الكلالة} [النساء: 176].
والحادية عشر: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة، فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد صلى الله عليه وسلم قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب، وهو قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} [الأعراف: 187] وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} ولابد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول: أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكالتشريف المحدد في كونه مخاطبًا من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ.
وأما الصورة الثانية وهي قوله: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا} [طه: 105] فالسبب أن قولهم: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيب بلفظ الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة، ثم كيفية الجواب أنه قال: {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا} ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنًا في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف، فإن قيل: إنهم قالوا: أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف هاهنا فإنه تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء.
وأما الصورة الثالثة: فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها.
وأما الصورة الرابعة: وهي قوله: {فَإِنّي قَرِيبٌ} ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه:
أحدها: أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال: يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات.
قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنى ءَادَمَ بالحق} [المائدة: 27].
{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175].
{واذكر في الكتاب موسى} [مريم: 51]، {واذكر في الكتاب إسماعيل} [مريم: 54].
{واذكر في الكتاب إِدْرِيسَ} [مريم: 56].
{وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 51]، ثم قال في قصة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] وفي أصحاب الكهف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} [الكهف: 13].
وما ذاك إلا لما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب، والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال: يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب، وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل.
وثانيها: أن قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} يدل على أن العبد له أن يسأل وقوله: {فَإِنّي قَرِيبٌ} يدل على أن الرب قريب من العبد.
وثالثها: لم يقل فالعبد مني قريب، بل قال أنا منه قريب، وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو، هو في مركز العدم وحضيض الفناء، فكيف يكون قريبًا، بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجودًا وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال: {فَإِنّي قَرِيبٌ}.
ورابعها: أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولًا بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعيًا لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقًا بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال: فقل إني قريب بل قال: {فَإِنّي قَرِيبٌ} فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي}.
والوجه الثاني: في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام: «الدعاء مخ العبادة» ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام العبادة لأن قوله: {إِنَّنِى أَنَا الله} [طه: 14] إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله: {فاعبدنى} [طه: 14] فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال: {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى}.
والوجه الثالث: وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ} [البقرة: 186].
{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
{وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56].
{ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55].
{هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [غافر: 65].
{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110].
{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] وقال صلى الله عليه وسلم: «ادعوا بياذا الجلال والإكرام» فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال: الدعاء على خلاف العقل من وجوه: أحدها: أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور، فأي حاجة بنا إلى الدعاء.
وثانيها: أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه.
وثالثها: الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب.
ورابعها: المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه.
وخامسها: فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى.
وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب.
وسادسها: قال عليه السلام رواية عن الله تعالى: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء.
وسابعها: أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء.
والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الإعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات.
وعن الثاني: أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه.
وعن الثالث: أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك.
وعن الرابع: يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء.
وعن الخامس: أنه إذا دعا إظهارًا للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات، ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمرًا ورد مجملًا لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء.
الوجه الرابع: في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] وقال عليه السلام: «لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول: اللهم اغفر لي» فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري.
الوجه الخامس: في فضل الدعاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلًا عظيمًا فقال في حقهم: {وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] وقال أيضًا: {وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين} [المائدة: 20] ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام: {ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} [البقرة: 68] وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} [آل عمران: 52] سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطبًا لهم من غير واسطة: {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وقال: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال: {رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} واعلم أنه تعالى قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام: أحدها: عبد العصمة: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42] وموسى عليه السلام كان مخصوصًا بمزيد العصمة: {واصطنعتك لِنَفْسِي} [طه: 41] فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال: {رَبِّ اشرح لِى صَدْرِى}.